فجر الاسلام

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الشيخ مصطفى بن عبد اللطيف بن ال هارون


    تعرف على الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم )

    الشيخ مصطفى بن عبد اللطيف
    الشيخ مصطفى بن عبد اللطيف
    Admin


    عدد المساهمات : 64
    تاريخ التسجيل : 07/11/2009
    العمر : 38
    الموقع : https://fajreleslam2020.yoo7.com

    تعرف على الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم  ) Empty تعرف على الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم )

    مُساهمة من طرف الشيخ مصطفى بن عبد اللطيف الأحد ديسمبر 12, 2010 9:00 am

    تعرف على الحبيب صلى الله عليه وسلم
    إن سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم - هي أفضل مثال للخلق الكريم والسيرة الحميدة. فقد تمثلت القيم الخلقية بشمولها في سيرته وتعامله، حيث وسع – عليه الصلاة والسلام – الجميع بخُلقُه وإحسانه ورحمته، حتى شملت ممارساته وتوجيهاته الخلقية مالا يعقل من الدواب والطير ومتى لا يطول المقام في ذكر الأمثلة والشواهد لتطبيقات القيم الخُلقية من سيرته عليه الصلاة والسلام، سيكون الحديث عن أبرز صورها وآثارها، من خلال الحديث عن آثرها في خلقه مع ربه تبارك وتعالى، ثم مع أصحابه - رضوان الله تعالى عليهم – ثم مع المخالفين له.

    خُلُقه مع ربه تبارك وتعالى
    لقد استشعر – عليه الصلاة والسلام – عظيم المنة من الله - تعالى – عليه، فقابلها - عليه الـصـلاة والسلام – بأكمل مقتضياتها، من الشكر لربه، والقيام بأمره، والدعوة إلى سبيله، وتحمل المشاق لأجله، والصبر على الأذى فيه، وتقديم محابه، وتعظيم أمره والتواضع له، إلى غير من الأخلاق العظيمة التي عامل بها ربه وتقرب بها إليه.
    - ففي الصحيحين أنه – عليه الصلاة والسلام – قام حتى ورمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غَفر الله لك ما تقدمَ من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: (أفلا أكون عبداً شكور)(1).
    قال ابن القيم: (الشكر سبيل رسل الله رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وأي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى المحبة والرضا والتوكل وغيرها، فإن الشكر لا يصلح غلا بعد حصولها، وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى)(2).
    - ومن صور تواضعه لربه – تبارك وتعالى – ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه دخل مكة يوم الفتح واضعاً رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل(3).
    - ومن خلقه مع ربه – تبارك وتعالى – الغضب له، فعن عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل)(4).
    - ومنها تعظيمه لأمر الله - تعالى -، ومعاملته للخلق وفق شرعه ومراده، فكان إعطاؤه ومنعه، ومحبته وبغضه، ورحمته وشدته ورضاه وغضبه، كل ذلك في الله ولله، كما قالت عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها – (كان خلقه القرآن)(5).
    - (وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر)(6).
    وبالجملة فقد قام - عليه الصلاة والسلام - بشكر مولاه بقلبه ولسانه وجوارحه بما لا مزيد عليه.
    خلقه مع أصحابه رضوان الله تعالى عليهم
    كان –عليه الصلاة والسلام – مع أصحابه على أكمل خلق وأحسنه وأجمله، يشكر لمحسنهم، ويعفو عمن أساء إليه منهم، ويتألفهم بالبذل لهم والإحسان إليهم.
    وقد أجمل ذلك العلامة إبن القيم فقال: (وأما سيرته في أوليائه وحزبه، فأمره – يعني ربه تبارك وتعالى – أن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وألا تَعْد عيناك عنهم، وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر، وأن يصلي عليهم، وأمره أن يقيم الحدود على من أتى موجباتها منهم، وأن يكونوا عنده في ذلك سواء شريفهم ودنيئهم)(7).
    ومن أعظم أخلاقه – عليه الصلاة والسلام – الجود والإحسان، فعن ابن عباس - رضي الله عنه – قال: (كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إن جبريل كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أجود بالخير من الريح المرسلة)(8
    ومن صور إحسانه – عليه الصلاة والسلام – ما عامل به وفد هوازن لما أتوا مسلمين، وكان – عليه الصلاة والسلام – قد قاتلهم وكسر شوكتهم يوم حنين، وجمع منهم من السبي والغنائم شيئاً عظيماً(9).
    قال إبن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عبدالله بن عمرو بن العاص أن وفد هوازن أتوا رسـول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيره، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فأمنن علينا، منَّ الله عليك ..، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أبناؤكم ونسائكم أحبُّ إليكم أم أموالكم ؟) فقالوا: يا رسول الله،خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا، فقال لهم: (أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم)، فلما صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم)؛ فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال الانصار: وما كان لنا فهو لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال: عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أمّا من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض، من أول سبي أصيبه، فردوا إلى النّاس أبناءهم ونسائهم)(10).
    وفي هذه القصة من الفوائد، أنه – عليه الصلاة والسلام – جمع بين الإحسان إلى هذا الوفد الذي أقبل راغباً مسلماً، والترغيب في الإحسان إليهم مع عدم الإلزام بذلك، لأن جملة ممن معه هم من المؤلفة قلوبهم، الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ومع هذا فقد وعدهم بالعطاء الجزيل مقابل ردهم ما في أيديهم، وفي هذا من الحكمة والسياسة وحسن التعامل مع النفوس، وترويضها على البذل، ودفعها إليه برفق، ما يشهد بكمال حكمته وعظيم خُلُقه – عليه الصلاة والسلام -.
    - ومن ذلك إعطاؤه – عليه الصلاة والسلام – المؤلفة قلوبهم، وهم الذين أسلموا حديثاً من أهل مكة والقبائل حولها (فأعطى – يوم حنين – رجالاً من أشرافهم المائه من الإبل)(11).
    - وقد أشار – عليه الصلاة والسلام – في مناسبات عدة إلى الحكمة من هذا الإعطاء وأمثاله، فقال للأنصار في تلك الغزوة: (إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم)(12).
    وقال في غيرها لسعد بن أبي وقاص وقد أشار بإعطاء رجل، قال: (أني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يُكبَّ في النابر على وجهه)(13).
    - ومن أخلاقة – عليه الصلاة والسلام – معهم صبره على أذاهم، وكان ذلك منه تأليفاً لقلوبهم، وحتى لا ينفر منه غيرهم وقد أشار - عليه الصلاة والسلام - إلى هذا المعنى عندما سأله عمر: (أن يضرب عنق المنافق/ عبدالله بن أبي – بعد أن قال مرجعهم من غزوة بني المصطلق/ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال – عليه الصلاة والسلام – (دعه لا يتحدث النّاس أن محمداً يقتل أصحابه))(14).
    فمن ذلك ما روى ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: (قسم النبي – صلى الله عليه وسلم – قسمة، فقال رجلُ من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت: أما لأقولن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته – وهو في أصحبه – فساررته، فشق ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – وتغير وجهه وغضب، حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال: (قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر))(15).
    ومن ذلك أيضاً ما روى أنس – رضي الله عنه – قال: (كنت أمشي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْلي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (فضحك ثم أمر له بعطاء))(16).
    وهكذا لم يكتف – عليه الصلاة والسلام – باحتمال جهله والعفو عن سيئته حتى قابله بالإحسان، وتألفه بشيء من الدنيا.
    - ومن مظاهر عنايته – عليه الصلاة والسلام – بالقيم الخلقية في معاملة أصحابه، أخذه بالشورى، وهو الغني عنها بالوحي، ولكن أراد تألف القلوب، وتوجيه الأمة.
    قال القرطبي في قول الله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(17): قالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييباً لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم، وتألفاً على دينهم، وإن كان الله – تعالى – قد أغناه عن رأيهم بوحيه وقال قتادة وغيره: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله – تعالى – نبيه – عليه الصلاة والسلام – أن يشاورهم في الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لضغائِنهم، وأطيب لنفوسهم.
    وقال قتادة والضحاك: (إنما أراد الله أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ولتقتدي به أمته من بعده)(18).
    ولعل كل هذه المعاني مرادة من المشاورة، وإذا أضيف إلى ذلك أن أهل المشاورة هم سادات النّاس ووجهاؤهم تبين معه شموله – عليه الصلاة والسلام – الجميعَ بإحسانه كلاً بحسب منزلته وما يصلحه ويصلح له.
    وقد أخذ – عليه الصلاة والسلام – بهذه القيَّمة في مقامات عديدة، فمن ذلك:-
    - أنه – عليه الصلاة والسلام – شاور أصحبه، حين بلغه إقبال أبي سفيان، يوم بدر فلما علم موافقتهم على القتال سار بهم للقاء العدو(19).
    - كما أستشارهم في الخروج أو البقاء في المدينة يوم أحد(20).
    - واستشارهم يوم الخندق، فأشار عليه سلمان بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة، فأمر به – عليه الصلاة والسلام – "4" وغير هذا كثير ومعلوم من سيرته – عليه الصلاة والسلام -.
    بل قد أخذ بهذه القيَّمة حتى في أموره الخاصة، فعندما قال المنافقون في عائشة – رضي الله عنها – ما قالوا في حادثة الأفك المشهورة، استشار – عليه الصلاة والسلام – علياً وأسامة بن زيد في فراق أهله، فأشار عليه علي - رضي الله عنه - أن يفارقها، وأشار عليه أسامة بإمساكها، ثم إنه – عليه الصلاة والسلام – صبر حتى أنزل الله براءتها(21).
    - ومن ذلك الحرص على إقامة العدل بينهم، فكلهم أمام أحكام الله وحدوده سواء، لا فرق في ذلك بين شريفهم ووضيعهم، قويهم وضعيفهم.
    وقد أكد – عليه الصلاة والسلام – على ذلك وحذر من التهاون فيه، أو الإخلال في تنفيذه، فذلك بريد الفساد ونذير الهلاك، فعن عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها -: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلمه أسامة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أتشفع في حد من حدود الله) فقام فاختطب فقال: (أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يده))(22).

    وبعد فلم تقتصر ممارساته – صلى الله عليه وسلم - وتوجيهاته الخلقية على أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – فحسب، بل تعدت ذلك لتشمل الأمة بأكملها، فشريعته للعالمين، وأوامره للنّاس أجمعين، فندب إلى أمرو وترك الإلزام بها، ورغب في أمور قد لا تُعجز أو تَشقُ على أصحابه لو أُلزموا بها، لقوة هممهم ونفاذ عزائمهم، وحرصهم على الخير بخلاف غيرهم ممن أتى بعدهم.
    - فمن شواهد رحمته – عليه الصلاة والسلام – بأمته ندبه إلى السواك وعدم إيجابه، وعلل ذلك بخشية المشقة على الأمة، فقال – عليه الصلاة والسلام -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)(23).
    - ومن ذلك أنه – عليه الصلاة والسلام كان يدع العمل من أعمال البر من النوافل مع محبته له ورغبته التقرب إلى الله به فيتركه خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، وقد حدث هذا في صلاة الليل من رمضان، فعن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: (أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فلما أصبح قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج غليكم إلا خشيت أن تفرض عليكم)، وذلك في رمضان)(24).
    - وصدق الله – تعالى – إذ يقول في وصفه: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)(25).
    وقـد كـان من ثمار ما أكرمه الله – تعالى – به من الرسالة، وحباه من خلق عظيم، أن أحبه أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – محبة عظيمة لهجت بها الألسن، وصدقتها المواقف والأعمال.
    وهكذا أثمرت أخلاقة – عليه الصلاة والسلام – قيماً خلقية أخرى من أصحابه وأتباعه، من محبته وتعظيم ونصيحة وغيرها، فمن ذلك:
    - لما خرج المشركون بخبيب بن عدي موثقاً بالحديد ليقتلوه، فلما وضعوا فيه السلاح ونادوه وناشدوه: أتحب أن محمداً مكانك ؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة قي قدمه(26).
    - بل بلغ من حبهم وتعظيمهم له - عليه الصلاة والسلام – حداً بهر أعداءه، وأذهل الجاهلين به، قال عروة بن مسعود الثقفي "والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إني مـا رأيت ملكاً يعظمه أصحاب ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كـف رجل منهم

    - فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له(27).

    * * *
    خلقه مع المخالفين له
    لقد كان الأصل في معاملته – عليه الصلاة والسلام – للمخالفين له الرحمة بهم، والحرص على هدايتهم، والصبر على أذاهم، والبذل لهم والإحسان إليهم، ترغيباً لهم، واستجلاباً لقلوبهم، ذلك أن (من أعظم ما يتوسل به إلى الناس ويستجلب به محبتهم: البذل لهم مما يملك المرء من حطام هذه الدنيا، واحتماله عنهم ما يكون منهم من الأذى)(28).
    قال ابن القيم الجـوزية – رحمه الله تعـالى – عن سيرته – عليه الصلاة والسلام – مع أعدائه: (وأمره – يعني ربه تبارك وتعالى – في دفع عدوه من شياطين الأنس، أن يدفع بالتي هي أحسن، فيقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان، وجهله بالحلم، وظلمه بالعفو، وقطيعته بالصلة، وأخبره أنه إن فعل ذلك عاد عدوه كأنه ولي حميم)(29).
    - فأما الرص على هدايتهم، فإنه كان يكثر الدعاء لهم، وسؤال الله – تعالى – لهم الهداية، بل كان دعاؤه سبباً في إسلام طوائف كثيرة منهم.
    فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: (يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال: (اللهم أهد دوساً وأئت بهم) فلم يلبثوا أن أتوا مسلمين)(30).
    - وأما عن جوده – صلى الله عليه وسلم – لهم، فعن أنس: (أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – غنماً بين جبلين فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)(31).
    وقال صفوان بن أمية بعد أن أعطاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – مائة من النّعم ثم مائه، والله لقد أعطاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أعطاني وإنه لا يفض النّاس إلى فما برح يعطيني حتى إنه لأحب النّاس إلي)(31).

    ومن هذين الحديثين تبين أثر الجود والبذل، وفعاليته في تحويل القلوب وتوجيهها، حيث قلبت البغض إلى محب، والعاصي إلى مطيع، ولا عجب (فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها)(33) ومن ثم القبول منه والأخذ عنه.
    قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى – (من أمر غيره بحسن أو أحب موافقته على ذلك أو نهى غيره عن شيء فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحساناً يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو، لا يمكن غير ذلك، ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الصدقات)(34).
    - ومن مظاهر عنايته – عليه الصلاة والسلام – بالقيم الخلقية مع المخالفين له وفاؤه بعدهم، (ومن شواهد ذلك ما حدث يوم الحديبية، عندما صالح الرسول – صلى الله عليه وسلم – المشركين من أهل مكة، وكان من بنود هذا الصلح، أن لا يأتي المسلمين أحد إلا رده على المشركين وإن كان مسلماً، وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، فقال سهيل – وكان مندوب قـريش في الصلح – هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه، أن ترده إلي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – (إنا لم نقض الكتاب بعد)، فقال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم – (فأجزه لي) قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، وانتهى الأمر برده – عليه الصلاة والسلام – أبا جندل وفاء بالعهد)(35).
    وهكذا فقد حاول – عليه الصلاة والسلام – التلطف مع سهيل بن عمرو حتى يترك له أبا جندل، فلما رفض لم يفرض – عليه الصلاة والسلام – بقيمة الوفاء ولو ترتب عليها أذى وعذاب ببعض أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – لأن الإخلال بها في مثل هذا الموطن يفتح باباً للإخلال بها في مواطن أخرى قد يترتب عليها هلاك أمم ودمار شعوب، وعليه فلا محاباة في القيم ولا تفريط في الفضائل وإن عظم الخطب في الظاهر فالتفريط بالقيم أعظم ويلاً وأشد خطراً.
    ومشهد آخر بعد الصلح أيضاً، فبعد (أن رجع النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة جاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين)(36). حفظاً للعهد ورعاية للقيم

    ومن مظاهر عنايته بالقيم الخلية أيضاً، رده الجميل لمن أحسن إليه منهم، فعن العـباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه – أنه قال للنبي – صلى الله عليه وسلم – (ما أغنيت عن عمك – يعني أبا طالب – فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال: (هو في ضحضاح(37) من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار))(38).
    وقال - عليه الصلاة والسلام -: (لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)(39).
    وكان إحسان المطعم إجارته للرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما أراد دخول مكة عائداً من الطائف بعد إعراض ثقيف عن دعوته(40).
    - ومن ذلك عفوه – عليه الصلاة والسلام – عنهم كما عفا عن أهل مكة، وهم الذين كذبوه وآذوه، وهموا بقتله، وأخرجوه من بلده، وقاتلوه في مواطن كثيرة، فبعد أن أكرمه الله – تعالى – بفتح مكة، والظفر بهم، والتمكن منهم، عفا عنهم، حيث قال لهم: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟) قالوا: خيراً، أخٌ كريم وبن أخٍ كريم، قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(41).
    - كما عفا عن جماعة منهم حاولوا النيل منه على حين غفلة منه، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على الرسول – صلى الله عليه وسلم – من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غّرِة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فأخذهم سلماً فاستحياهم، وخلى سبيلهم)(42).
    هذه كانت أخلاقه – عليه الصلاة والسلام – مع أعدائه والمخالفين له تتمثل فيها الهمة بهم، والحرص على نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
    على أن هذه الأخلاق العظيمة من رحمة وبذل وجود وإحسان وعفو لم تكن عن ضعف أو مهانه أو عجز، لذا نراه – عليه الصلاة والسلام – عندما تشتد المعارضة، وتقوى المخالفة ويستهان بالمبادئ والأخلاق والقيم، بعد الأمر عدته، ويعامل المستهين بما يستحق من قوة وغلظة وحزم.
    - ومن ذلك ما عامل به – عليه الصلاة والسلام – طوائف اليهود الثلاث، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فكلهم نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)(43) وكان – عليه الصلاة والسلام – قد صالحهم يوم قدم المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن)(44).
    أما بنو قينقاع فأظهروا البغض والحسد وحاربوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعد بدر، فسار إليهم
    رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحاصرهم حتى نزلوا على حكمة، وكلم عبدالله بن أبي فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وألح عليه، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه فيها(45).
    وأما بنو النضير فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس هاهنا حتى نقضي لك حاجتك، وخلا بعضهم ببعض، وسول له الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله، فأتى الرسول – صلى الله عليه وسلم – الخبر من السماء بما هموا به، فقام وخرج راجعاً على المدينة، ثم أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، فحاصرهم وقطع نخلهم وحرّق، فأرسلوا إليه: نحن نخرج عن المدينة، فانزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح، ففعلوا ذلك(46).
    وأما بنو قريظه، فكانوا كما قال ابن القيم: (اشد اليهود عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأغلظهم كفراً، ولذلك جرى عليهم ما لم يجري على إخوانهم)(47).
    وملخص أمرهم (أنهم استغلوا اجتماع قريش وغطفان لحرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحصارهم للمدينة، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما هزم الله الأحزاب سار إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم – وحاصرهم وضيق عليهم الحصار حتى نزلوا على حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان بنو قريظة حلفاء للأوس فطلبوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يحسن إليهم كما فعل في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فقال لهم – عليه الصلاة والسلام – (ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم)، قالوا: بلى، قال (فذلك على سعد بن معاذ)، فحكم فيهم: أن تقتل الرجال، تقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء(48)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل))(49).
    وحزمه – عليه الصلاة والسلام – في هذه المواطن ليس بأقل شأن من رحمته وعفوه في المواطن الأخرى، فمثل هذا الحزم وهذه الشدة قامت الفضائل، والتزم الناس الطريق وسلكوا السبيل، إن لم يجدوهم الأمل والرغبة، ساقهم الخوف والرهبة.
    وهذه المواقف منه – عليه الصلاة والسلام – تقابل مواقفه ممن هاجر مسلماً من مكة إلى المدينة بعد صلح الحديبية فكما ردهم إلى الكفار مع ما يلحق بهم من العذاب والأذى وفاء بالعهد الذي بينه وبينهم، فإنه – عليه الصلاة والسلام – ألحق بهذه الطوائف العذاب لما نقضت ما بينها وبينه من العهد.
    وهكذا يظهر جلياً من سيرته – عليه الصلاة والسلام – حرصه على القيم الخلقية، وتعظيمه لها، لأنها مقتضى شرع الله، ومحض أمره، فتعظيمها من تعظيم أمره، والتزامها عمل بشرعه، والشدة على مخالفها قضاء بحكمه.

    * * *

    (والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
    منقول عن
    د/ عبد الله بن محمد العمرو






    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) رواه البخاري "1130" ومسلم "2819".
    (2) ابن القيم – مدارج السالكين جـ4 صـ249 -.
    (3) ابن هشام – السيره النبوية جـ4 صـ405 – دار الكنوز الأدبية.
    (4) رواه مسلم "2328".
    (5) رواه مسلم "746".
    (6) ابن تيمية الفتاوى جـ"10" صـ658"".
    (7) ابن القيم زاد المعاد جـ"3" صـ"161".
    Cool رواه البخاري ومسلم "2308".
    (9) أنظر أبن هشام السيرة النبوية جـ"4"صـ"488".
    (10) انظر ابن هشام السيره جـ"4" صـ"488-490" وأصلها في البخاري، انظر: ابن حجر - فتح الباري – جـ"8" صـ"24".
    (11) رواه مسلم "2313".
    (12) رواه مسلم "2313" وما بعده.
    (13) رواه البخاري "27" ومسلم "150" واللفظ لمسلم.
    (14) متفق عليه، البخاري برقم "4905" ومسلم برقم "2584".
    (15) متفق عليه، البخاري برقم "3150" ومسلم برقم "1062".
    (16) متفق عليه، البخاري برقم "3149" ومسلم برقم "2426".
    (17) سورة آل عمران الآية رقم (159).
    (18) القرطبي - الجامع لأحكام القرآن – جـ "4" ص"250".
    (19) الخبر في صحيح مسلم برقم "4597".
    (20) ابن هشام السيرة النبوية جـ"3" صـ"63".
    (21) . القصة مطولة في الصحيحين البخاري برقم "4757" ومسلم برقم "2770".
    (22) متفق عليه، البخاري برقم "887" ومسلم "2520.
    (23) متفق عليه، البخاري برقم "887" ومسلم "2520.
    (24) متفق عليه، البخاري برقم "1129".
    (25) سورة التوبه الآيه رقم "128".
    (26) رواه البخاري برقم "4086".
    (27) رواه البخاري.
    (28) أبو حاتم البيتي – روضة العقلاء ونزهة الفضلاء تحقيق/ محمد محي الدين صـ"96" .
    (29) ابن القيم – زاد المعاد – جـ"3" صـ "161" ويشير في الجملة الأخيرة إلى قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) سورة فصلة الآيه "34".
    (30) متفق عليه، البخاري "2937" مسلم "2524".
    (31) رواه مسلم "2312".
    (32) رواه مسلم "2313".
    (33) أبو حاتم البستي – روضه العقلاء ونزهة الفضلاء – ص "243".
    (34) ابن تيمية – الحسبة صـ"88-89".
    (35) رواه البخاري برقم "2581" مطولاً.
    (36) رواه البخاري.
    (37) ضحضاح: لا عمق فيه، القليل، مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط الجزء "2" ص"534-535".
    (38) رواه البخاري برقم "3883".
    (39) رواه البخاري برقم "3139".
    (40) انظر ابن حجر - فتح الباري - الجزء "7" الصفحة رقم "324.
    (41) ابن هشام – السيرة النبوية – جـ"4" صـ"412" وانظر الغزالي – فقه السيرة – صـ" 3082 والخبر قال عنه الألباني ضعيف، ولكن وصف الطلقاء ثابت في صحيح مسلم، انظر النووي شرح صحيح مسلم جـ"3" صـ"101" .
    (42) رواه مسلم "1808" وأحمد "3/24" وقوله (سلماً) قال النووي ضبطوه بوجهين الإستسلام والإذعان كقوله تعالى (وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) النساء الآية "91" والثاني بإسكان اللام مع كسر السين وفتحها، ومعناه الصلح، أنظر المرجع السابق جـ"4" صـ"468-469" باختصار.
    (43) جاء في البخاري من حديث ابن عمر تقرير ذلك، انظر ابن حجر – فتح الباري – جـ"7" صـ"329".
    (44) ابن القيم – زاد المعاد – جـ"3" صـ"126".
    (45) (1) انظر ابن هشام السيرة النبوية جـ"3" صـ"126-127" وانظر ابن القيم زاد المعاد جـ"3" صـ"114-115".
    (46) ابن هشام السيرة النبوية جـ"3" صـ"190-191" وانظر ابن القيم زاد المعاد جـ"3" صـ"115".
    (47) ابن القيم جـ"3، زاد المعاد " صـ"117".
    (48) ابن هشام السيرة النبوية جـ"3" صـ"233-241" مختصراً وانظر ابن القيم زاد المعاد جـ"3" صـ"133-134" وأصله في مسلم "4574".
    (49) رواه مسلم "4574" ورواه البخاري بلفظ (حكمت فيهم بحكم الملك) أنظر ابن حجر – فتح الباري – جـ"6" صـ"165".







      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 19, 2024 12:05 am